فى عصر باتت فيه البيانات الطبية حجر الزاوية فى تقديم رعاية صحية فعالة، كشفت دراسة حديثة أعدتها الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا عن واقع وتحديات النظام الإلكترونى لسجلات المرضى فى مصر.
وتسلط الدراسة التى حصلت «المال» على نسخة منها، الضوء على الإمكانات الكامنة لهذا النظام فى دعم منظومة التأمين الصحى الشامل، إلى جانب التحديات الفنية والتنظيمية والفرص الاستثمارية الواعدة.
لماذا الحاجة إلى نظام إلكتروني؟
وقالت الدراسة التى أعدها فريق من الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا، إنه مع التوسع فى تقديم خدمات الرعاية الصحية وتزايد أعداد المرضى، أصبحت الحاجة ملحة لوجود قاعدة بيانات موحدة ودقيقة تسهم فى تحسين جودة التشخيص، وتسرع من اتخاذ القرار العلاجي.
وأكدت أن النظام الإلكترونى للسجلات الصحية هو الأداة التى تتيح هذا التحول، من خلال حفظ البيانات الطبية للمريض، مثل التشخيص، والأدوية، والفحوصات والتحاليل فى صورة رقمية قابلة للمشاركة بين مختلف مقدمى الخدمات الصحية.
واعتبرت أنه برغم الجهود الحكومية فى مجال التحول الرقمي، لا تزال السوق المحلية تعانى من ضعف واضح فى هذا المجال، مشيرة إلى أنهحتى أكتوبر الماضى، لم يكن لدى جميع أنحاء الجمهورية أنظمة سجلات صحية إلكترونية نشطة، سوى فى314مستشفى، وهو ما يشكل نسبة ضئيلة مقارنة بعدد المستشفيات العامة والخاصة، حيث يوجد فى مصر1809مستشفيات، منها664«حكوميا» و1145«خاصا».
مشروع تجريبى بدعم الذكاء الاصطناعي
الدراسة تقدم تصورا عمليا لمشروع جديد يستهدف دمج نظام «EHR» المعنى بحفظ السجلات الطبية للمرضى ضمن منظومة التأمين الصحى الشامل، ويعتمد على بنية رقمية قابلة للتوسع باستخدام أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي.
والمشروع المقدم اعتبر أنه يمتلك العديد من المميزات وعلى رأسها مركزية السجلات الطبية، وهو ما يمكن الفرق الطبية من التواصل الفورى بين الأطباء والمنشآت الصحية المختلفة، كما أنه يضمن بنية خدمات دقيقة تتيح التوسع السلس والتشغيل المتعدد باللغات، مما يسمح بوصول شامل لجميع المستخدمين، علاوة على تحسين سير العمل السريرى عبر تتبع المريض، وتسجيل جميع تدخلاته الطبية بشكل لحظي.
أبرز الأدوات التقنية المستخدمة
وكشفت الدراسة عن عدد من الأدوات التقنية المستخدمة فى المشروع منها نموذجLLaMA3-OpenBioLLM-70B: يستخدم فى توليد تقارير طبية دقيقة، وتلخيص ملاحظات الأطباء، وتمكين خصائص روبوتات المحادثة الطبية أثناء الاستشارات.
كما أنه يتمتع بنظامأطلق عليه «محول الرؤية» ويطبق فى تشخيص أمراض الجهاز التنفسى مثل الالتهاب الرئوى من خلال تحليل الصور الإشعاعية بشكل دقيق، الأمر الذى يضمن تقديم تشخيص أكثر دقة، وبالتالى تحديد علاجات بعينها لمواجهة الأمراض.
وبحسب الدراسة، أظهرت التقييمات أن النظام قادر على تحقيق «استدعاء» عال، أى أنه يلتقط نسبة كبيرة من التفاصيل الدقيقة، وإن كان يعانى أحيانا من إنتاج نصوص طويلة وتحتاج إلى مزيد من التركيز والاختصار.
الإطار التنظيمى الغائب
وأحد أبرز التحديات التى ترصدها الدراسة هو غياب تشريع موحد ينظم التعامل مع السجلات الصحية الإلكترونية فى مصر، فعلى الرغم من الجهود المبذولة فى السنوات الأخيرة، لا يزال الاستخدام مقيدا بقرارات فردية أو توجهات مؤسسية دون غطاء قانونى شامل.
وأوصت الدراسة باعتماد الرقم القومى كمفتاح موحد لربط جميع البيانات الصحية الخاصة بالمريض بين المؤسسات الحكومية والخاصة والتى تتمتع بطابع خاص، علاوة على تشفير السجلات لضمان حماية بيانات المرضى من الاختراق أو التلاعب.
كما أوصت بتحديد صلاحيات الوصول، بحيث يمنح الأطباء أو الممرضون أو الإداريون العاملون فى المنشآت الصحية مستويات مختلفة من الصلاحية حسب أدوارهم، وتمكين المريض من مراجعة بياناته، وتقديم طلبات لتعديل الأخطاء بشكل قانونى ومنظم.
واعتبرت أن التوصيات سالفة الذكر لو تم تطبيقها، ستضع مصر على طريق إنشاء سجل طبى وطنى موثوق وآمن، يعزز من فاعلية تقديم الخدمة الطبية ويزيد من ثقة المواطن فى المنظومة الصحية.
واقع التنفيذ الميداني
ورغم ما تحمله النماذج التقنية من وعود، إلا أن الدراسة ترصد تحديات ميدانية حقيقية تواجه تطبيق النظام فى مصر، أبرزها ما يرتبط بمستوى الكوادر الطبية العاملة فى المنشآت الصحية.
وتابعت، أجريت دراسة ميدانية على عينة من1.217ممرضة فى33مستشفى حكوميا وخاصا لقياس تقبل استخدام نظام السجلات الإلكترونية، خلصت إلى ارتباط المهارات الحاسوبية بزيادة تقبل النظام، كما أن التحصيل العلمى الأعلى لدى الكوادر الطبية يرتبط إيجابيا برغبة أكبر فى التحول الرقمي.
وشددت الدراسة على أن عمليات التحول والتطوير تجد مقاومة من بعض الأطباء والممرضين، خاصة الذين يرون فى النظام عبئا إضافيا أو تهديدا لاستقلاليتهم المهنية، وهو ما اعتبرته الدراسة غير واقعي.
وتطرقت إلى عدد من التحديات المرتبطة بالبنية التحتية والتى تتمثل فى ضعف شبكة الإنترنت ببعض المستشفيات خاصة التى تقع فى الريف أو المناطق النائية، علاوة على محدودية عدد الأجهزة الحديثة (التابلت، السيرفرات)، فى ظل غياب التدريب المستمر، مما يؤدى إلى الاستخدام الخاطئ أو الإهمال فى تحديث البيانات.
وكشفت عن خشية البعض من أن يؤدى إدخال الذكاء الاصطناعى فى التشخيص إلى تقليل دور الطبيب أو تحميله مسئولية قرارات رقمية لا يتحكم فيها مباشرة، كما أن اعتماد التوثيق الرقمى بدلا من الورقى لا يزال غير مقبول بشكل كامل فى العديد من المنشآت والوحدات الصحية.
خارطة طريق للتحول الرقمي
ووضعت الدراسة مجموعة من التوصيات المفصلة التى يمكن أن تمثل خارطة طريق قابلة للتنفيذ، على رأسها إعداد قانون خاص بالسجلات الصحية الإلكترونية، يتضمن نصوصا لحماية البيانات وضمان الحقوق، بالإضافة لربط جميع المستشفيات الحكومية والخاصة بشبكة إنترنت آمنة وسريعة، مع توفير الأجهزة اللازمة للعمل.
وأوصت الدراسة بتنفيذ دورات تدريبية إلزامية للأطباء والتمريض والعاملين فى الشئون الإدارية لاستخدام النظام، علاوة على إنشاء إدارة مركزية لإدارة بيانات المرضى تابعة لوزارة الصحة، ومتصلة بمنظومة التأمين الصحى الشامل.
وأضافت، كما يجب استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعى فى التلخيص الآلي، وتحليل الأشعة، والتنبؤ بالأمراض المزمنة، بالإضافة إلى تطوير وتعديل اللغة المستخدمة فى النظام وتحويلها للعربية مما سهل الأمر على المريض والطبيب فى الوقت ذاته.
فرص استثمارية واعدة
بعيدا عن الأبعاد التنظيمية، ترى الدراسة أن تطوير نظام «EHR» فى مصر يفتح أبوابا واسعة أمام القطاع الخاص والاستثمار التكنولوجي، من أبرزها: شراكة الحكومة مع شركات تكنولوجيا صحية لتقديم خدمات النظام الإلكترونى للسجلات الصحية، بالإضافة إلى دمج السجلات الطبية الإلكترونية فى منظومة التأمين الصحى الشامل لتسهيل الربط بين الخدمات الصحية المختلفة.
وأكدت أن تطوير وتطبيق النظام من شأنه أن يحفز الابتكار المحلى لتطوير تطبيقات تكنولوجية طبية مساعدةتستند إلى بيانات السجل الموحد، الأمر الذى يساهم أيضا فيخلق وظائف رقمية جديدة فى مجالات تحليل البيانات الصحية، والأمن السيبراني، ودعم البرمجيات الطبية.
ووضعت الدراسة التى أعدتها الجامعة المصرية اليابانية خارطة طريق طموح لرقمنة الرعاية الصحية فى مصر من خلال تفعيل النظام الإلكترونى للسجلات الطبية، وبينما تتوفر البنية التكنولوجية والتجريبية، يبقى التحدى الأكبر فى التوسع، والتشريع، وتغيير ثقافة العاملين فى القطاع.
كما أن نجاح هذا التحول لن ينعكس فقط على المرضى من خلال تحسين جودة الخدمة الطبية، بل سيجعل من مصر نموذجا إقليميا يحتذى به فى التحول الرقمى الصحي، ويسهم فى تحقيق هدف أكبر، وهو تقديم رعاية صحية عادلة، متقدمة، وآمنة لكل مواطن.
النظام الجديد يخلق وظائف رقمية فى تحليل البيانات الصحية والأمن السيبرانى ودعم البرمجيات الطبية
«البنية التحتية» و«التدريب» و «التشريع الموحد» أبرز التحديات
